الأربعاء، نوفمبر 17، 2010

هنيئا لهناء ولخالد - رواية (دكتورة هناء) لريم بسيونى


شخصية تبقى على الصراع لغة للحياة حتى آخر كلمة من الرواية، لأنه أسلوب حياتها، وليس مجرد وسيلة من تقنيات الرواية الأدبية، ورغم ذلك تبقى أيديها مشتبكة بأيدى الغريم الحبيب الذى استطاع أن يعطيها النقيضين سويا: القدرة على الصراع والجرأة، والخضوع الصابر على انفجاراتها وتسلطها.
هكذا استطاعت الدكتورة هناء أن تذهب مع خالد:
"قالت فى تهكم: كنتَ متأكدا من أننى سآتى معك!
قال فى جدية: نعم!
- متأكد؟
- بالطبع!
- إننى سآتى معك؟ وآكل البقلاوة وأعترف بالهزيمة؟
- وتحاربين وتتحدين وتحاولين وتنتقمين و..
صمت ثم همس: ساعدينى.. أحيانا أحتاج إلى مساعدتك لأواجه العالم.. أو ربما أحتاج استفزازك لأعاندك وأصر على نجاح علاقتنا.
- عنيد أنت؟
- جدا؟
همست فى توعد، وهى تعرف أنها لن تستطيع تركه أبدا. إنه قدرها وعمرها الباقى..
- خالد..لقد قلت لك..ما دمت أنا على قيد الحياة فلن تحصل على الدكتوراه أبدا!
قال فى تلقائية: لا يهم طالما أنت المشرفة على..
- سأحطم مستقبلك وسترى!
أمسك بيدها وقام وشدها معه: حطميه ونحن معا.
- نعم ونحن معا.. لن أتركك.. بالطبع لن أتركك تحيا فى سلام.. لا أستطيع!" (ص 311-312)

كانت هذه نهاية الرواية غير المفتوحة، فى رواية استطاعت أن تجذبنى لإنهائها فى فترة وجيزة ومتصلة، حيث أن لغتها سهلة، وأحداثها بسيطة وعميقة، ولا تتفذلك على القارئ بل تحدثه عن أحداث يعلمها فى غالب الأحيان، وتدخل عالم المرأة عريضا بتنويعاته رغم التركيز على الدكتورة هناء، وباستخدام لغة تحرير المرأة لا بهدف الفوقية الثقافية – أى أن تشعرك بمدى معاناة المرأة- بل لتشعرك بمدى المساواة بين وضعى المرأة والرجل فى مجتمعنا الذى يعانى من مشاكل حالية تصيب الاثنين وتستدعى تكاتفهما فى مرحلة ربما تشبه الثورة الصناعية فى الأدب الإنجليزى حينما كان ديكنز يتحدث عن أطفال الشوارع وفقراء المجتمع المطحونين فى لندن.
ومن الأدب الإنجليزى دخلت د.ريم البسيونى التى كنت لا أعلم يقينا إن كانت هى بذاته تُدَرِّسه، أم فقط درسته، ثم توصلت لمعرفة أنها تعمل بجامعة جورج تاون الأمريكية أستاذة للأدب وللغة، وأنها قد قضت سنوات طويلة خارج مصر إما للدراسة أو العمل، كما أنها فازت بجائزة أحسن عمل مترجم فى الولايات المتحدة الأمريكية عن روايتها "بائع الفستق" الصادرة عام 2006 عن دار مدبولى للنشر. وقد فازت بالمركز الأول في مسابقة ساويرس الثقافية فرع الشباب في مجال الرواية عن عملها الذى نتحدث عنه ونحاول عرضه " الدكتورة هناء".
ولقد استخدمت قسم اللغة الإنجليزية ليكون مسرحا مناسبا لقصتها التى تحتوى على حوارات مكتوبة بلغم مسرحية متوازنة، يقوم فيها المتحاوران بالأخذ والرد فى حوارات لا تطول فتمل، ولا تغلق من طرف واحد بطريقة مبتورة، بل يعبر كل طرف عن نفسه وبذكاء وحساسية تجذبك لمفردات وجمل الكاتبة الأنثى: تلك التى لا تترك تفاصيل مثل بيت خالد واهتمام أمه بنظافته وتلميع نجفه مثلا ومثالا على المرأة فى البيئة الفقيرة والمتوسطة ببولاق الحى الشعبى المكتظ بأهله، وكذلك بتفاصيل د.هناء البخيلة المتوحدة بالزمالك.
تعترض المؤلفة النساء من الطبقتين، ومن المتزوجات والعوانس –إن جاز التعبير- لكنها تركز على د. هناء التى وصلت للأربعين بلا زواج وتعمل أستاذة بقسم اللغة الإنجليزية، وتدخل فى عالم الجامعة وسلطان الأساتذة، خاصة مع الوصول لمناصب قيادية كرئاسة القسم، والفساد الجامعى موضوع حياتى نستشعره فى كثير من الأحيان، لكن المؤلفة اختارت زواجا سريا من رئيسة قسم بطالب دكتوراه و معيد فى قسمها. هل إذا سمعت الجملة ستعتبره من استغلال النفوذ؟ لا بد أن هذا هو الانطباع الأول الذى سيأتيك إن عرفت بهذا النبأ ممن قرأ الرواية، لكنك لا تستشعر غضاضة فى زواج كهذا، رغم أنه محكوم بالفشل فى مجتمع مصر المعتاد، ومهاجم من قبل الأم لخالد، ومن المجتمع العلمى لهناء، وطموحها و نظرتها للحياة وكيف تستقيم.
هناك أيضا نظرة خالد المتدين الصبور المصرى المعتاد للحياة والنظام وقدر الفساد فى المجتمع الذى قد يكون مفيدا لتعويض الفقراء عن بعض ما يفتقدونه، فمنع معيد من أسرة رقيقة الحال، كخالد من إعطاء الدروس الخصوصية لن يكون الحل الأمثل لإصلاح قسم الدكتورة هناء، وابتعاثه فى بعثة لأمريكا تاركا خلفه أما وأختا مع أخ باهت لا وجود له فى الرواية تقريبا، قد يكون اختيارا ينكص عنه خالد، بل إن وجود هناء المتشددة على رأس هذا القسم الكبير لهو مرفوض من قبل خالد حتى يشارك فى نهاية استمرارها على الكرسى، باعترافه للعميد أنه متزوج منها، وهو يضع بجوار عدم اقتناعه بها وبسياستها فى الإدارة، جنبا إلى جنب مع رفضه أن يخرجونها بفضائح ملفقة، تسئ لسمعتها أكثر من زواج التلميذ.
هذا الجو الجامعى الذى لا يختلف كثيرا عن أجواء مصرية تلوثت، ورغم احتياج الجامعة لأناس يلتمسون سبل الكمال، لكنهم عزوا فى هذا الزمان، وأصبحت المصالح والأهواء واختلاف الرؤى أسبابا كافية لأن تعيق الحركة السليمة، لكن خالدا يتكيف كمصرى شعبى صبور مع هذه الأوضاع ويفلسف للفساد مزايا.
تفتتح د. ريم بسيونى كتابها بقول جان أوستن الكاتبة البريطانية: (( الرجال تميزوا عنا دائما بقدرتهم على أن يقصوا قصصهم.. فالقلم فى يدهم. ))، ثم تهدى الكتاب "إلى كل امرأة شرقية تمسك بالقلم لتكتب قصتها بيدها. أيا كان نوع القلم!! فلها شرف المحاولة.
و إلى كل مصرى يعشق بغزارة ويكره بغزارة ويأكل الحلويات الشرقية." (ص 7)

تعاود د. ريم ذكر القلم بقرب النهاية بعد أن أبلغ خالدا عميد الكلية بخبر الزواج المستور، وعندما ذهب بالقرب من الأهرام ضيق النفس. تعبر د. ريم عن ذلك بقولها:
"هل أخطأ لأنه أراد أن يأخذ القيادة.. أن ينزع القلم ويكتب هو؟ وهل عليه أن يبقى متفرجا إلى الأبد؟ مَن فى مصر يكتب ويمسك بالقلم؟ من يتحكم فى أى شئ وكل شئ. وكان كغيره قد اعتاد الاستسلام لذرات الرمال الملوثة تعبث بعينيه كيفما تشاء.
وكغيره لا يتدخل فى ما لا يعنيه، ولا يحاول تغيير أى شئ.
كان كغيره يستسلم لأصحاب القرار، ويترك الريح تأخذه، وتطيح به كما قال عبد الحليم:
على حسب الريح، ما يودى الريح، ما يودى الريح، ما يودى! وياه أنا ماشى ماشى ولا بيدى!
وكانت جزءا من مصريته.. كانت العزيمة والاستسلام والصبر والعشق كلها جزءا من مصريته.
وفى وقت يعجز فيه عن أن يحرك يده ليزيح الغبار عن عينيه وعن بيئته وشارعه وجامعته وبلده.. فى وقت العجز التام واليأس القديم قدم التاريخ.. كان رجلا يتمنى امرأة ويريد أن يكتب تاريخهما معا! هل من العدل أن يستمر غيره فى الإمساك بالقلم؟
......
......
اعتاد منذ القدم الاستسلام والهزيمة واليأس والسخرية.
ولكن خالدا مختلف. خالد كان يريد أن يحقق أحلامه الشخصية على الأقل لو لم يستطع تحقيق أحلامه القومية!
كان خالد يريد امرأة واحدة، وكان صبورا ومتحديا، وعنده جلد المصرى القديم الذى بنى الأهرامات ليمجد غيره، وحمل الحجر الثقيل لسنين من أجل لقمة العيش والحياة البسيطة.
كان يتمنى القليل ولا يندم. ولماذا يندم؟!
الآن عليه العودة للبيت. نعم عليه العودة للبيت." (ص286-287)
كان هذا رأى خالد الذى قال فيما مضى:
" – أريد امرأة تفهمنى، وتؤيدنى وتأخذ بأزرى وتدعمنى. أريدها ذكية ومتعلمة ومثقفة وهادئة ومطيعة وحنونا. " (يا لها من صفات يتمناها رجال كثر فى مصر لكنها قبض الريح) " لا أريد من تتشاجر معى كل ساعة ولا من تتحدانى كل يوم. فالرجل يا دكتورة فى بلدنا كالجمل فى الصحراء. يعانى من العطش والجوع والحمل الثقيل، وأهم من كل هذا يعانى من عدم القدرة على الوقوف. عليه أن يسير ويسير حتى لو أنهكه الطريق والحر. حتى لو أنهكته المهانة والذل. يحتاج عندما يعود إلى بيته أن يجد امرأة حنونا تدفئه ولا تخنقه ولا تسيطر عليه ولا تتعالى عليه. أتفهمين يا دكتورة ما أقصده؟"(ص64) ( لست أدرى هل هى تدرك أن هذا الوصف رجولى باقتدار، ومن الصدق أن تعترف به امرأة بهذه الدقة.)
كان هذا رأى خالد قبل أن يتزوج هناء، بل قبل أن تصبح هى رئيسة قسم، كانت قد وهبته عذريتها لتتخلص من عنوستها حتى الأربعين، دون أن يطلبها، وأضحت تحاوره وتستشف من مناقشته ماذا عساه أن يفعل، وهو كان شابا متدينا بلا تجارب وبأسرة تتكون من أم وأخت يعتبرانه عائلهما الوحيد الأثير وتتمسكان به حتى أنهما يخربان علاقته بخطيبته الأولى صفاء.
أما بعد أن تزوجها سرا، ثم أحبت أن تضعه فى مأزق حينما طلب منها أن يعلنا زواجهما، فقالت لأمه فى هدوء تحسد عليه"يا حماتى" وهى تمضى من منزله فى زيارتها الوحيدة له. تصف د.ريم بسيونى خالدا فى هذه الأزمة قائلة:
"كان رجلا شرقيا يكتب تاريخه غيره. ويكتب قصته غيره. ويكتب هزيمته غيره. ويكتب عذابه غيره. ويتكلم عن مشاعره وطغيانه ونفاقه وقلقه غيره.
كان عليه أن يستشير كل من حوله.
كان عليه أن يعطى توكيلا للنساء فى حياته للتصرف فيها كما يشئن. وتوكيلا آخر للرجال فى حياته لتحطيمها كما يشاءون.
كان رجلا شرقيا إذن..
هذا ما قالته عنه.
كان يتوقع أن تخدمه زوجته ويخدم هو الجميع."
تقول د. ريم بسيونى فى حوار مع شبكة محيط على موقعها*:
" كنت أريد أن أكتب عن الفتاة المصرية العادية أنا وأنت وأمي وأمك، الفتاة التي لا تبحث عن الثورة أو الحرية وليست متمردة، لكنها تبحث مثلنا جميعا عن السعادة والأمان."
كانت تتحدث عن روايتها الأولى والتى تسمى(رائحة البحر)، لكن هذا المبدأ يظهر واضحا فى رواية (الدكتورة هناء)، مثلما يظهر معنى ما قاله لها د.صلاح فضل الناقد المعروف:" أنت تكتبين عن مصر بصدق وكأنك تعيشين هنا."
هذا فى مسائل تحرر المرأة التى تقول عنها د.ريم فى نفس الحديث:
"وككاتبة كان من المتوقع مني اذا كنت أريد الشهرة أن أكتب عن قضايا المرأة وحقوقها المغتصبة في العالم العربي و خاصا في مصر وأن أصور الرجل في صورة مغتصب الحقوق والطاغية الذي يجب أن تتحرر المرأة من قيوده ولكن كانت لي رؤية مختلفة ؛ فالمرأة في مصر لا تعاني بالضرورة من الظلم وعدم المساواة مع الرجل وأن كثير من القضايا التي ربما تبدو للبعض كأنها قضايا حقوق مغتصبة للمراة هي في الحقيقة اختلاف ثقافي ومنظور مختلف للأمور."
أعتقد أنها كانت مخلصة لهذه الرؤية التى تجعل المصريين يرون صدقا جديدا فى رواية نسائية تخرجنا من لعبة القط والفأر الشهيرة المتعلقة بما يكتب من المرأة للحث على تحررها حتى ولو كان متزيدا، ومفارقا لروح المجتمع المصرى الذى يحمل فى داخله عوامل مقوية لوضع المرأة مثلما يأخذ منها فى نموذج لن أمدحه أو أقدح فيه، لكنه لا يفهم من خلال نظرية تحرر المرأة المبسطة المغالى فيها، بل يجعل أول الزاهدين فى هذه النظرية ومن يتبناها فى أدبه هم أهل هذا المجتمع المصرى. فالقارئ دوما يجد اللذة فيمن يحدثه عن نفسه فى الأدب، حتى وإن عرّى جروحه ومثالبه، لكن أن يدعى عليه ما ليس فيه، هنالك لا تنتظر منه أن يحتفى بأدب كهذا، بل إنه سيكون غبيا تابعا إن ضل طريقه لأدب على هذا المنوال.
استمع لحوارها بين هناء وخالد حينما أهدها مصحفا ذهبيا بديلا عن شبكة لم تأت، ففكرت فى رد الهدية، لكنها لم تجد وقتا:
"نظر إليها فى دهشة، فقالت مسرعة: لسوف أردها لك، لا تقلق. سوف أردها لك.
خرجت منه ضحكة، ثم قال: لا أريدك أن ترديها لى أبدا! إياك أن ترديها لى! أبداً أبداً!
نظرت إليه فى تحدٍّ: لماذا؟
قال فى لامبالاة: من غير سبب.
- من عادتك أن تهدى النساء الذهب.
- نعم من عادتى أن أهدى زوجتى الذهب. أليس هذا هو المفروض؟ أن أهدى زوجتى الذهب؟
قالت فى تحدٍّ: وزوجتك لا ترد الهدية
- أبداً!
- لأنها امرأة ولا تعمل وتعتمد عليك.
ابتسم قائلا: إنها هدية، لماذا تفكرين فيها كل هذا التفكير؟ هى هدية فقط، ما المشكلة؟! دكتورة، هل سنقضى كل الساعات المتبقية لنا نفكر فى الحقوق والواجبات، والنساء، وحقوق المرأة، والغرض من الهدية؟!"(ص171)

حتى وهى تتكلم عن التدين والدين فى المجتمع المصرى لم تتقعر أو تتزيد، بل ربما كانت كمن يمسه مسا رفيقا يعترف بقوة وجوده، التى ربما تكون مظهرية أكثر مما هى حقيقته فى النفوس، كما أنها قد تكون موسمية تبعا لعوادى الدهر على أشخاص المجتمع، مثلما حدث مع أخت هناء، ليلى التى طلقها زوجها وتزوج بأخرى فجأة، فتحولت من مدخنة تعتمد على الخدم، إلى الحاجة ليلى:
"عادت الحاجة ليلى والدين قد أكسبها الكثير. وكأنها ارتدت الرداء السحرى الذى يعطيها القوة. نظرة الجميع إليها قد تغيرت، أصبحت الحاجة ليلى فقيهة فى الدين، وتقضى كل وقتها إمّا فى الجامع، أو مع الأخوات، أو فى الصلاة وقراءة التفاسير. وكان الحجاب والحج قد غير نظرة الاحتقار التى كانت فى عيون الجميع.
فى غضون أربعة أشهر تحولت ليلى إلى إنسان آخر، وكانت قد زهدت فى الدنيا، وفى أولادها، وفى كل شئ ما عدا الدين.
وعندما زارتها هناء آخر مرة ودخلت حجرتها، رأت الكبرياء فى عينيها كما لم تره من قبل. ورأت الثقة والسلام والزهد. همست ليلى فى هدوء: أنا لا أنظر إلى نفسى كامرأة الآن يا هناء، بل كروح فى يد الله، وهو المنتقم الجبار.
نظرت إليها هناء فى شئ من الشك، ولم تكن تعرف هل تعمُّق ليلى فى الدين هو طريقتها لتجد نفسها وتثبت ذاتها، أم أنه رغبة حقيقية فى التقرب إلى الله.
...... وكأن الدين قد أصبح سلاحا فى يد المرأة، مثله مثل التعليم والمال. وكان سلاحا أقوى وأكثر تأثيرا وكان يخيف الرجل ويكبحه!"
وربما يكون فى تدين المصريين مظاهر نفاق ورياء لا تخطئها عين، لكن تدينهم فى مجموعه ليس تدين المنافق أو المرائى، بل إن نفاق المصريين ثقافة عبرت عنها فى بعض كلمات خالد حينما كان يحاور هناء فيقول لها: "نعم.. هذه هى المشكلة.. دكتورة هناء.. فى مصر ولاء الأفراد ليس للحكومة، بل لبعضهم البعض. لا أحد يعرف الحكومة، ولا أحد يثق بها. نحن هنا نحيا ونعمل فى ظروف زى الزفت لأن ولاءنا بعضنا لبعض. الحكومة لن تشعر بالمتنان. لن تنقذى مصر بتعيين فرد، ولكن هند ستشعر بالامتنان" (ص95-96) ، أو يقول لها فى نقاش آخر: "أنت أبشع قائدة رأيتها.. أنت مباشرة وصريحة وطاغية وتريدين العدالة، كل هذه مواصفات خطيرة.. تؤدى إلى الانهيار. أنت لست مراوغة ولا هادئة، ولا تستمعين لأحد، وتعشقين التحدى." (ص 202)، وهى السمات التى لا يتوقع خالد أن تناسب الواقع الحالى، بل ولا القيادة فى طبيعة تطبيقها.

لكن د.ريم فى النهاية توجد فى العلاقة العجيبة بين طبقتين، عليا مثقفة، ومتوسطة فقيرة كادحة، نوعا من التلاقى قد لا تجده بنفس العمق فى الحقيقة، فما الذى يجعل من زواج خالد وهناء حقيقيا؟! استمع لها وهى تتحدث عن د.هناء فى حى بولاق، ببيت خالد وفى طريقها إليه:
"هذا أنت إذن يا خالد.. من هذا البيت الصغير البسيط الملئ بالآيات القرآنية والشمس والنوافذ.
كانت تستمع إلى صوت القرآن الآتى من المطبخ الذى تطبخ فيه أم خالد، وصوت القرآن الآتى من النوافذ المختلفة والأذان..
هنا خالد إذن.. من هنا، منجانب هذا الجامع القديم فى آخر الشارع. هل كان سعيدا هنا؟ هل هو سعيد الآن؟
....
الجامع ليس ببعيد على الإطلاق. وهذا الشارع لا ينام أبدا.
توقعت أن تتأفف من المجارى الطافحة، والتراب، والتلوث الطاغى، والفقر، والقذارة، والنفايات، والجهل، والسلّم المهدوم، والنساء الضعيفات المزعجات، والرجال الفظة، والطعام الدسم، والحلويات المسكرة!
ولم تفعل، لم تتأفف من شئ.
لماذا؟
لا تدرى فقط لم تتأفف من شئ"(ص196-197)

بقى أن نعرض لشيئ مما عرضت له الكاتبة عن الحياة الجامعية، وما أصابها مثل ما أصاب مصر مما علق بذيلها. تقول فى نهاية الفصل الثانى:
"كان العميد يحب الديمقراطية التى يتمتع بها الجميع، ويعشق الكلام مع الأساتذة على انفراد، وتبادل الآراء والمناقشة الحرة. وعندما تتعدى المناقشة حدود المعقول كان بالطبع يحتاج غلى التدخل الفورى، وتحويل الأستاذ إلى التحقيق، وإضافة هدية صغيرة فى ملفه أنه مشاغب، ويسأل الكثير من الأسئلة ويطلب الكثير من الطلبات، ولا بد من توخى الحذر فى الترقية وما يشبه ذلك. ولكنه كان يستمع فى صبر، وكأنه يستمع إلى مسلسل تليفزيونى، ثم ينفذ ما يريد وعادة يحاول تنفيذ عكس ما يريده الآخرون، ففى النظم الديمقراطية الحديثة تنفيذ ما يريده الآخرون هو أول خطوة تؤدى إلى الانهيار! وكلنا نعرف ونشهد كل يوم مجتمعات ديمقراطية تنهار، وبلادا تنقسم باسم سيادة الديمقراطية!
ولماذا نثق بعامة البشر ونحن نعرف أن الإنسان خطَّاء و نسَّاء..إلخ!
كان يستمع إلى رأى الأساتذة فى الدكتورة هناء والدكتورة مايسة! وأجمع كل الأساتذة أن الدكتورة مايسة سهلة التعامل، وأم وأخت، وحاجة، وست وقورة، وربنا بيحبها، وأن هناء محترمة وصعبة فى التعامل، وتطلب الكثير، وغريبة الأطوار، وعانس، ومعقدة وحتطلع عين القسم!
ومن أجل الديمقراطية، ومن أجل حب الشعب وحكم الشعب للشعب! قرر العميد تعيين الدكتورة هناء رئيسا للقسم!" (ص82-83)
أما عن رد فعل هناء فى الفصل الثالث، فقد كان كما يلى:
"ما إن سمعت هناء خبر انتصارها المهم وانقلاب الأوضاع وسيادة القانون حتى لاح بخاطرها شخصان فقط. عبد الحميد سكرتير الدكتور سامى وخالد!
....
و الشعور بالقوة أثملها وأصابها بنشوة لم تعرفها يوما! وأصبح الماضى والحاضر لا شئ، وأصبح رامى قزما ضئيلا وتافها لا يلعب دوراً فى كتابة التاريخ!"
(بالمناسبة رامى هو حبيبها أيام الدراسة الذى لم يتزوجها ثم يكتشف القارئ فى الفصل الخامس أنه كان مسيحيا لذلك لم يتزوجها)
"العدالة.. مفتاح السعادة.
جاءت أخيرا العدالة. كانت تظن مصر تتسرب من بين يديها كعمرها، والآن عمرها ومصر بين يديها وسوف تحافظ على مصر وعلى عمرها!
بدأت تبحث فى أوراق تعيين عبد الحميد فى السبعينيات فاكتشفت أن مؤهله دبلوم تجارة فقط، لذا قررت نقله إلى مكتب الأرشيف لعدة شهور، ثم البت فى أمره........
أما خالد..خالد.
فالخوف منه هو!
خالد.. يعرف الكثير. قطع رقبته بالطبع حل مثالى، وبما أن القانون فى مصر
للأسف لم يزل يعاقب على القتل العمد حتى ولو كان للضرورة، فعليها التفكير فى وسيلة أخرى للتعامل معه!
يجب أن يبقى تحت إشرافها ومراقبتها طوال الوقت. وهذا سهل الآن. فقد سجل الدكتوراه مع الدكتور محمد عبد الله. والدكتور محمد لن يمانع فى أن يعطيها طالبه لو طلبت هذا!
وعندما يصبح خالد طالب الدكتوراه طالبها هى، وهى أيضا رئيسة القسم فسوف يكبل بقيود من الصعب التملص منها.
وعندما يكبل خالد لن ينطق. وعندما يكبل خالد ستفكر فى هدوء فى المستقبل.. فربما تحتاج إليه من جديد.. من يدرى؟!
قالت لرامى: هل أجرؤ على أن أحلم؟
وقال: لا!
أين أنت يا رامى لتراها تتخطى كل الأحلام وكل الطموحات، وتحصل على كل ما تريده دفعة واحدة؟!
يوم الانتصار العظيم، هذا يوم يجب أن يكتبه التاريخ، فهى تنوى أن تغير التاريخ!
تنهدت فى نشوة لم تشعر بها يوما قط، وجلست على المكتب الكبير، وتنفست فى فخر وابتهاج. نظرت إلى ساعتها.. بعد دقائق سيبدأ الاجتماع الذى سترأسه هى! ولم يكن هناك شئ تريده فى هذا العالم سوى هذه اللحظة.. لا.. كان هناك شئ آخر.. أن تفقد عذريتها، وتحققت هذه الأمنية أيضا. و الآن.. سوف يدخل الجميع مكتبها كالماشية التى تتبع الراعى فى استسلام. هناك عدالة إذن فى هذه البلد، هنالك عدالة وفرصة للتفوق.
دخل الأساتذة فى احترام الواحد تلو الآخر.. الكل يهنئها ويمدحها.
تغيرت نغمة صوتها بعض الشئ.. ارتفعت ربما.. ازدادت قوة ..أصبحت تأمر ولا تنتظر الرد.
دخل المعيدون أيضا.. رأته كان يجلس فى الخلف يسند صديقه محمدا كالعادة. يجلس بجانبه، يناوله الماء.. ينشغل به. غريب خالد هذا .لا بأس ستتعرف عليه أكثر قريبا.
قالت فى قوة: أريد أن أتكلم معكم عن عدة مواضيع.. أولا أريد أن أقول إننى سعيدة بالفرصة التى أتاحها لى العميد، وأرجو من اليوم أن يكون ولاؤنا الأول والأخير للمؤسسة، نعم ولاؤنا جميعا للجامعة أولا. وأنا هنا لأخدم أهداف الجامعة و..
كانت تنظر إليه.. كان يكتب شيئا.. خالد.. ماذا يكتب.. كلماتها.. شعرت بفخر شديد.. التقت عيناها بعينى الدكتور سامى..(رئيس القسم السابق عليها) ابتسمت فى فخر وأكملت: هناك بعض القواعد التى ربما نسيناها كلنا، نحن هنا كرعاة للعلم، والعلم هو أول هدف لنا، لذا سوف أتخذ بعض الإجراءات التى قد تبدو صارمة، ولكنها فى الحقيقة تخدم أولا المؤسسة..
وضعت نظارتها وبدأت تقرأ: بالنسبة للأساتذة .. لن أسمح بإعارة أى من الأساتذة فى الوقت الحالى، والسبب فى ذلك هو أن المعارين دائما يهملون أبحاثهم كما نعرف، ويعملون فقط كمدرسين، وعندما يهمل العالم بحثه يموت، ويصبح مثله مثل المدرس الإلزامى.
نظر الأساتذة بعضهم إلى بعض فى ذهول فقالت: هل يوجد أى اعتراض؟
نظرت حولها. لم ينطق أحد. لم يجرؤ أحد على الاعتراض، ولم يعتد أحد على الاعتراض، ولم يكن سؤالها سوى سؤال أجوف بلا معنى.
أكملت فى ثقة: لذا فالبحث العلمى سيكون أول المهام التى يجب أن يقوم بها الأستاذ، وسوف يحدد مرتبه على هذا الأساس وسوف تقاس كفاءته على هذا الأساس.. أما بالنسبة للمعيدين والأساتذة المساعدين -(غالبا قصدت المدرسين المساعدين)- فأنا أقولها الآن.. لن أسمح بالدروس الخصوصية.. ولو عرفت أن أحدهم يعطيها فسوف يكون عرضة للتحقيق والعقاب. أما بالنسبة للبعثات فسيحصل عليها من يستحقها، وليس من أعطاه المجتمع فرصة أفضل فى الحياة. فلنحاول معا أن نسمو بمستوى جامعتنا وبلدنا.
بدأ التصفيق المستمر. ابتسمت فى نشوة. قام دكتور سامى وقال فى قوة: أنا سأذهب إعارة يا دكتورة.
وكان تحديا لم تتوقعه، وقالت وهى تستجمع كل قوتها: لا يا دكتور، لن أوافق على الإعارة.ز مصر محتجالك.
بدأت نبرة صوته تعلو: سأذهب يا دكتورة، وسآتى بالموافقة حتى لو من عند الوزير!
بدأ الهمس يسيطر على الغرفة. قالت من جديد وصوتها يعلو: طالما أنا على هذا المقعد لن تذهب. انتهى الاجتماع اليوم شكرا يا أساتذة..
بدأ الجميع فى الخروج. نظرت إلى خالد وهو يفتح الباب لصديقه، وقالت فى قوتها التى تعشقها: خالد ومحمد أريد أن أتكلم معكما." (ص85-90)
........
"بدأ يساعد صديقه على ترك الغرفة، ثم دخل من جديد. نظر إليها، التقت أعينهما، قال فى هدوء: هل يمكننى أن أجلس؟
قالت فى فخر وهى تجلس من جديد على مكتبها الفخم: بالطبع يمكنك أن تجلس، ألم أقل لك أنا اريدك.
ابتسم قائلا: هذا ما قلتِهِ، ولا أعرف ماذا يعنى هذا على وجه التحديد. عفوا يا دكتورة ولكننى أحيانا لا أفهمك.
- ماذا كنت تكتب؟
- كلماتك بالطبع. نحن نتعلم منك يا دكتورة.
قالت فى زهو: كيف حالك؟
أدار وجهه عنها: بخير .. خاصة الآن مع قدوم النظام العالمى الجديد؟
- ماذا تقصد؟ تسخر منى؟
- وهل أجرؤ؟
- لا لا تجرؤ. خاصة الآن. هل تعرف لماذا؟
همس فى هدوء: لأنك الآن المشرفة على رسالتى، ولو غضبت على فسوف تنطبق على السبع سموات، وربما أجد نفسى كعمتى التى مسها الجن.. شريدا بلا مأوى ولا هدف.
قالت فى ضيق: تسخر منى إذن!
- فقط لا أفهمك؟ ماذا تريدين منى يا دكتورة؟ تريديننى كيف؟
فتحت فمها، فقال هو فى هدوء: أعرف ماذا تريدين.. أن تتأكدى من ولائى. قائد عظيم أنت يا دكتورة. لذا كنت أحاول أن أتعلم منك، فربما يوما ليس بقريب تئول لى القيادة.
- تنظر إلى منصبى! هذا ما كنت أخافه يا خالد. أنت طموح وذكى، و.. يجب أن تبقى بجانبى تساعدنى على تأسيس نظام جديد سمته الضمير والعدل.
نظر إليها، صمت برهة، ثم قال: أتسمحين لى بالتكلم أم ستقطعين رأسى؟
- تكلم
- يجب عليك فهم النظام القديم أولا قبل تأسيس نظام جديد، لا يمكن لأى قائد فى مصر أن يستهين بالنظام القديم.
- وما هو النظام القديم؟
- بالضبط!
- عفوا؟
- هذا السؤال يلخص النظام.. لا أحد يعرف. لا يوجد نظام.
- لا أفهمك.
- نعم بالضبط، كلنا اعتدنا ألا نفهم، أما إذا فهمنا فهذه هى بداية النهاية.
- الجهل خيبة!
- ونعمة!
- ماذا تقصد؟
- هل عينت أحدا فى وظيفة سكرتيرك الخاص؟" (ص91-93)
.....................
"
- خالد.. لقد قلت للتو إن ولائى للمؤسسة وليس لأفراد. الجامعة هى مليكى وليس البشر، وما دامت الجامعة هى أولويتى فسوف أُعين من هو أكثر كفاءة وليس من هو أكثر فقرا واحتياجا.
نظر إليها لثوان، ثم قال فى وجل وكأنها أعلنت للتو الخيانة العظمى: ولاؤك للحكومة إذن؟
- أنا هنا من أجل الحكومة!
- نعم .. هذه هى المشكلة.. دكتورة هناء.. فى مصر ولاء الأفراد ليس للحكومة، بل لبعضهم البعض. لا أحد يعرف الحكومة، ولا أحد يثق بها. نحن هنا نحيا ونعمل فى ظروف زى الزفت لأن ولاءنا بعضنا لبعض. الحكومة لن تشعر بالمتنان. لن تنقذى مصر بتعيين فرد، ولكن هند ستشعر بالامتنان
- نعم هذه هى مشكلة مصر، الولاء. فى الخارج الولاء للمؤسسة، وليس لأفراد، لا مشاعر ولا محسوبية. سأبدأ بنفسى إذن.
قام فى ضيق: حسنا، هل تريدين منى أى شئ؟
نظرت غليه ثم قالت: لا دروس خصوصية! أنت تعرف هذا الآن.
قال فى تلقائية: بالطبع كلامك أوامر. والديمقراطية! ما وظيفتها فى هذه المؤسسة الحكومية؟
- فى إطارها الصحيح مجدية، أما إذا استغلها الجهلاء فهى سلاح يقتل صاحبه.
- نعم معك حق.
ابتسمت فى تهكم قائلة: بالطبع يمكنك الزواج من هند حتى تصونها، وسوف تصبح نعم الزوجة، وسوف تسهر على راحتك.
قال فى هدوء: نعم هذا ممكن. ولكن ولائى يجب أن يكون للمؤسسة وأصحاب المؤسسة، وليس لبنت فقيرة، وإلا.. ربما لا أحصل على الدكتوراه أبدا!
- ماذا تقصد؟
- عادةً لا أقصد أى شئ.. وأحيانا أقصد شيئاً وربما شيئين.
- ولا تتكلم فى جِدٍ أبداً. أنا لا أفهمك.
- طبعا بوصفك المشرفة على الدكتوراه يجب أن تفهمينى. فى المستقبل ربما. مبروك يا دكتورة.
عندما خرج خالد من الحجرة كان يشعر بحنق شديد على كل شئ. وكانت هذه الطاقة الهائلة التى تجاهلها لسنوات، قد ازدادت مع الغضب الذى ينمو كل يوم تجاه هذه المرأة التى أعطته يوما هدية لم يطلبها، ثم تجاهلته، وكأنها لا تأبه به على الإطلاق.
بالطبع هو لا يحبها ولا يريدها، ولكن كرامته جرحت جرحاً كبيراً. كان يتوقع من امرأة فقدت عذريتها أن تتوسل إليه أن يتزوجها.. أن تشعر بالخزى من الفاحشة التى ارتكبتها، لا أن تحيا وكأنها ضحت بطبق قديم وأعطته هبة للفقراء."(ص95-97)

المصادر:
1- د. ريم بسيونى، (الدكتورة هناء)، طبعة مكتبة الأسرة.
2- حوار مع د. ريم بسيونى على شبكة محيط : http://www.moheet.com/show_files.aspx?fid=299075
3- http://www.alqabas.com.kw/Article.aspx?id=566973
4- http://www.moheet.com/show_news.aspx?nid=389840&pg=8