الخميس، سبتمبر 16، 2010

من الأولى - اسمح لى بالاختلاف معك

حول العالم فى ثمانين فقرة
الكاتب
بلال فضل
Thu, 16/09/2010 - 08:25

1- أرجوك لا تبتئس. حتماً ولزماً سيأتى اليوم الذى تدرك فيه بلادنا المنكوبة أن العلماء والأدباء والفنانين أهم وأجدى وأبدى وأجدع مليون مرة من السياسيين والحكام والقادة، وعندها سنرفع أسماءهم عالية خفاقة على الميادين والشوارع والمدارس ومحطات المترو والمنشآت العامة، مرفقة بصورهم ونبذات عن حياتهم وأجزاء مختارة من أعمالهم لتذكير الأجيال الجديدة بهم وتخليدهم فى الوجدان، وسنحذف أسماء الساسة والزعماء التى تنتشر كالوباء فى كل أرجاء بلادنا، ليظل مكانهم الوحيد كتب التاريخ، التى تدرس عهودهم وتقوم بتقييم حسناتهم وسيئاتهم وتحكى قصصهم لمن أراد إليها سبيلا.

إذا بدا لك ذلك شطحة خيالية، فلك أن تعلم أن روسيا بدأت بفعل ذلك، ففى موسكو، تم مؤخرا افتتاح محطة مترو تحمل اسم الروائى الروسى الأعظم ديستوفسكى، صاحب الجريمة والعقاب والإخوة كرامازوف، والشياطين والأبله، وغيرها من الأعمال الروائية العظيمة التى ترجمها إلى العربية المترجم السورى الكبير سامى الدروبى رحمه الله،

وتكرمت الهيئة المصرية العامة للكتاب بإصدار طبعة خاصة من أعماله الكاملة بأسعار شعبية جعلت كل ما تمت طباعته ينفد فورا، ولعلها تحسن إلينا فتعيد طباعة تلك الأعمال العظيمة لتصل إلى كل راغب فى قراءتها. محطة المترو لم تحمل اسم ديستوفسكى فقط، بل حملت على حوائطها لوحات فنية بديعة تصور مشاهد شهيرة مأخوذة من أهم رواياته،

الغريب أن تلك اللوحات تعرضت للانتقاد من البعض، لأنها رُسِمت بألوان كئيبة، فضلا عن أن المشاهد المختارة حسب رأى المنتقدين يمكن أن تشجع أكثر على الانتحار، الذى تعانى منه موسكو، حيث انتحر فى العام الماضى 80 شخصا رموا أنفسهم أمام قطارات المترو. صحيفة «الديلى تليجراف» البريطانية سألت الرسام إيفان نيكولايف، الذى رسم اللوحات: لماذا اختار من بين روايات ديستوفسكى لوحاتٍ كئيبة يصور إحداها مشهدا من رواية الجريمة والعقاب حيث يقتل بطلها راسكلنيكوف سيدة عجوز،

بينما تصور لوحة أخرى بطلاً من أبطال رواية الشيطان مهووسا بالانتحار يمسك بمسدس بيستول ويشرع فى قتل نفسه، فرد بهدوء شديد: «وما الذى كنتم تتوقعونه منى؟!، ديستوفسكى ليس لديه فى رواياته مشاهد رقص». قلت لنفسى: حقا لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، فلو رأى المنتقدون الروس جدران محطات مترو الأنفاق المليئة بالقبح والكآبة لدينا لحمدوا الله على نعمته.

على أى حال إذا رأيت أن حلمى بتغيير أسماء محطات المترو الرئيسية لدينا لتحمل أسماء نجيب محفوظ وصلاح جاهين وأم كلثوم ومصطفى مشرفة ومحمد عبده وأحمد زويل ونجيب الريحانى وكبار علمائنا وأدبائنا وفنانينا هو حلم دونه خرط القتاد، فدعنى أقل لك إنه فى نفس الأسبوع الذى افتتحت فيه محطة ديستوفسكى فى موسكو كانت جورجيا تشهد اختفاء تمثال الطاغية السوفيتى جوزيف ستالين من أكبر ميادين مدينة مسقط رأسه جورى..

كان التمثال البرونزى الضخم، الذى يبلغ طوله عشرين قدما قد أقيم فى عام 1952 قبل سنة من وفاة ستالين، وظل صامدا حتى خلال الأيام التى شهدت محاكمة الفترة الستالينية فى عهد خروشوف، وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى واستقلال جورجيا وتحولها إلى عدو لروسيا التى لم تعد ستالينية، ثم جاء اليوم الذى تتم فيه إزالته من الميدان غير مأسوف عليه. وصدقنى، نحن أيضا طال الزمان أو قصر سيأتى يوم علينا تختفى فيه من أنظارنا أسماء الحكام الذين جابوا لنا الكفية والفقر والتخلف والتطرف والاستبداد، وسيرزقنا الله بوزير ثقافة لا ينشغل بإدخال المثقفين إلى الحظيرة،

ولا ببعث كشوفات للكشف عليهم فى اتحاد الكتاب، وبدلا من أن يساعد، بإهماله، الحرامية على سرقة الفن التشكيلى من المتاحف، سينشغل بإخراج الفن إلى الناس على جدران محطات المترو والمدارس والميادين فى لوحات مبهجة، تصور على سبيل المثال لا الحصر حرافيش نجيب محفوظ وأبطال الليلة الكبيرة وحراجى القط ويامنة وأحمد سماعين ونساء محمود سعيد ورجال يوسف إدريس وصعاليك خيرى شلبى. صدقنى، سيحدث ذلك يوما ما، فربنا كريم، ومصر تستاهل.



اسمح لى بالاختلاف معك، فليس تمييز السياسيين على الأدباء صحيحا ولا تمييز الأدباء على السياسيين صحيحا هو الآخر.
لعل التوازن هو الأصح، وإنه صحيح من وجهة نظرى فى زمان أصبح الاختلاف حتى فى الأساسيات و الأصول، من كثرة ما دقت الطبول فوق الرؤوس. فمنذ كانت القبيلة فى بلاد العرب تسير خلف المرعى وكان الشعب المصرى يزرع أرضه فى هدوء أو مع غارات الأعداء، وهو يحترم إن لم يكن يقدس حاكمه وشيخ قبيلته، لكته يعرف قدر شاعره ومغنيه، وكاهنه المحيط بأسرار العلم فى محيطه الإنسانى. لكن ضعف هذا المحيط هو ما يجعل التنافس على الشعبية هو الهدف لا الاجتماع سويا من أجل هدف أسمى ولو كان إصلاح هذه الجماعة كحد أدنى لما بعده من أهداف نبيلة ترجوها هذه الجماعة.