الاثنين، يناير 10، 2005

عباس محمود العقاد

عندما قرأته لأول مرة ربما كان غريبا أن يقرأ عبقرية عمر -التى يستصعبها من يدرسونها فى الثانوية العامة- مراهق فى سن أقل بخمس او ست سنوات، و ربما لفت انتباهى إيثار أبى أن يجمع أكبر قدر من كتبه كما لفت انتباهى أننى فى مدرسة باسمه بجوار شارع عباس العقاد الشهير بالقاهرة. أصبح كاتبى المفضل مع توفيق الحكيم فى سن صغيرة نسبيا و برغم رفضى لبعض ما وجدته فى الحكيم و فيه و تغير الموارد التى وردتها فى القراءة فيما بعد فإنه كان قامة لم أستطع أن أقلل من شأنها طول هذه الفترة و حتى الآن وقد قاربت الثلاثين.
عرفته أولا من الإسلاميات لا سيما العبقريات ثم وجدته فى الأدب شابا لا تلين له قناة حينما أخذ يناطح شوقى -بقامته التى كفلت له ان يصبح أمير الشعراء من شعراء العرب قاطبة- و هو لا يزال يدور فى أطراف الأدب متخذا من المازنى و شكرى شركاء فى مدرسة يعجب المرء أن تتكون من ثلاثة ينقلب اثنان منهما على ثالثهما، شكرى فيسمونه صنم الألاعيب. و لم يكن هذا إلا لطبيعة شعرية خاصة تمزج العقل والعاطفة لا سيما العقاد بذاته و الذى ركب مركب التجديد الرومانسى و هو يحمل عقلا قوى العريكة فلم يجد مؤرخو الأدب فى هذه المرحلة إلا أن يفصلوا الديوان بكتابهم الذى حمل على الكثيرين فى مدرسة خاصة فى الأدب و النقد.
لا تدرى هل كان مناطحة مغترة بالفتوة و التجديد ما دفعهم إلى ذلك لكنه بالرغم من ذلك قََََََََدّ عباسا من سبيكة عصية على الصهر بل هى التى تصهر كل ما يقابلها من افكار و إن أثر على خطوطه: الخط الأدبى الرومانسية التى تدعو لأفكار أكثر مما تدعو لأحاسيس- عكس أبولو و ربما أكثر من المهجر-، و الخط الفكرى الإسلامى لا سيما فى النهايات التى أبدع فيها فكريا، و الخط السياسى الوفدى الذى كان طاغيا و فاعلا فى الحياة المصرية آنذاك، و الذى اشترك فيه الشاب الواعد بما كان يجب له حتى أنه دخل السجن بتهمة العيب فى الذات الملكية و هى التهمة التى ووريت التراب بعد ذلك، فى عهد الثورة و الذى رفض آنذاك-بعد خروجه من الوفد مستقلا- الإخوان و عبد الناصر كليهما، و عادى الشيوعية أكثر منهما، مؤثرا الحرية الملتزمة بالقيم فى تفكير رصين .
حينذاك عرفته مرة أخرى من صالونه الأدبى الذى صاغ جلساته البديعة فى أسلوب ساحر أنيس منصور و الذى تمرد على أبوة العقاد الفكرية و الأدبية لا من خلال الفلسفة الوجودية فحسب بل من خلال قلب الاسلوب الأدبى للعقاد من القوى الرصين إلى أسلوبه السهل المنساب، فجمع فى هذا الكتاب تحفة ادبية تشمل أفكار جيله المتحير و اتجاهاته مخلوطة بتجربته الذاتية فى الحياة و الجامعة و الصحافة و نرى هذا الخط فيه واحة يركن إليها ليعب مما تفور به عينها الحارة المتدفقة "العقاد" الذى يجمع الحواريين و التلاميذ و المستمعين ليكون صورة حية تختلف عن الصورة المألوفة للمؤلفات الجامدة إلى حيوية و حركة الفكر فى حينه و مكانه. تجد فى هذا الصالون العقاد يصول و يجول بين من يحاولون ان يتصدون لحقائق الحياة فى حيرة و جسارة يبحثون عن ملجأ فى اتجاهات متباينة تفرز الواحدة الأخرى فى قوة و اتقاد فبين الشرقى و الغربى تاهت الحقائق و لم يعد شرقى الامس هو ما يعنيه شرقى اليوم فما بالك باضطراب الغرب بين نجاح تقنى و سيادة مطلقة إلى تصارع دموى عنيف يخرج بالمبادئ و الأفكار مثلما يخرج بالسياسات و الحروب، ثم يخرج بالعالم من ست سنوات من الحرب الكبرى تأكل الاخضر و اليابس و تنتهى بحدث جلل و هو انفجار الذرة فى قنبلة أذهلت الغالب و المنهزم. يرصد أنيس منصور كل هذا العناء الفكرى كما يرصد إضاءات العقاد محاولا إعطاء الشباب وسائل للوصول دون أن يوارب أو يجامل، بل هو هو فى قوته و وضوحه حتى يصل المركب إلى مرفأه و ينتهى عصر برجاله إلى آخر بما يرجل به و يفور، ولا يزال الزمان يطلع علينا بكل جديد.